فصل: سؤال: ما سر الالتفات إلى الغيبة؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

وتحقيق الآية هو: أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره. وأمّا من سُئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث. أما أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يُسلم، وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحِجاج ليجادل به أهل الحق، ولا يُعلم الخصم على خصمه حجة يقطع بها ماله، ولا السلطان تأويلًا يتطرّق به إلى مكاره الرعية، ولا ينشر الرُّخص في السفهاء فيجعلوا ذلك طريقًا إلى ارتكاب المحظورات، وترك الواجبات ونحو ذلك. يُرْوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها» وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تعلّقوا الدُّرّ في أعناق الخنازير» يريد تعليم الفقه من ليس من أهله. وقد قال سَحْنُون: إن حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص إنما جاء في الشهادة. قال ابن العربي: والصحيح خلافه؛ لأن في الحديث: «مَن سُئل عن علم» ولم يقل عن شهادة، والبقاء على الظاهر حتى يرد عليه ما يزيله؛ والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: {مِنَ البينات والهدى} يعمّ المنصوص عليه والمستنبط؛ لشمول اسم الهُدَى للجميع.
وفيه دليل على وجوب العمل بقول الواحد؛ لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله، وقال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} [البقرة: 160] فحكم بوقوع البيان بخبرهم.
فإن قيل: إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيًّا عن الكتمان ومأمورًا بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر بهم الخبر. قلنا: هذا غلط؛ لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان فلا يكون خبرهم موجبًا للعلم؛ والله تعالى أعلم.
الرابعة: لما قال: {مِنَ البينات والهدى} دلّ على أن ما كان من غير ذلك جائز كَتْمه، لاسيما إن كان مع ذلك خوف فإن ذلك آكد في الكتمان. وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال: حفِظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وِعاءَيْن؛ فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قُطع هذا البُلْعوم. أخرجه البخاري. قال أبو عبد اللَّه: البلعوم مجرى الطعام. قال علماؤنا: وهذا الذي لم يبثّه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن والنص على أعيان المرتدين والمنافقين، ونحو هذا مما لا يتعلّق بالبينات والهدى؛ والله تعالى أعلم. اهـ.
سؤال: فإنْ قيل: كيْفَ يلْعَنُهُ النَّاس أَجْمَعُونَ، وأهْلُ دينِهِ لا يلْعَنُونَه؟.
فجوابُهُ منْ وجُوهٍ:
أحدها: أَنَّ أهل دينه يلْعَنُونه فِي الآخرة؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25] قال أبو العَالِيَةِ: يُوقَفُ الكافِرُ يَوْمَ القيامةِ، فيلْعَنُهُ اللَّهُ، ثم تَلْعَنُهُ الملائكةُ، ثم تلْعَنُهُ النَّاسُ.
وثانيها: قال قَتَادَةُ، والرَّبِيع: أَرَادَ بالنَّاس أجْمَعِين المؤمِنِينَ؛ كأنه لَمْ يَعْتَدَّ بغَيْرهم، وحَكَم بأنَّ المؤمنين هُمُ النَّاس لا غَيْرُ.
وثالثها: أنَّ كُلَّ أحَدٍ يَلْعَنُ الجاهلَ، والظالم؛ لأنَّ قُبْحَ ذلك مُقَرَّرٌ في العُقُول فإذا كان في نَفسه هو جاهلًا، أو ظالمًا، وإنْ كَانَ لا يعلَمُ هو مِن نَفْسه كوْنَهُ كَذَلِكَ كانَتْ لعنتُهُ على الجَاهِلِ والظَّالم تتناوَلُ نَفْسَهُ.
ورابعها: أَنَّ يُحْمَل وُقُوعُ اللَّعْنَة عَلَى اسْتحْقَاق اللَّعْنِ، وحينئذ يَعُمُّ ذلك. اهـ.
سؤال: لم قال: {اللاَّعِنُونَ}، ولم يقل اللاعِنَات؟
وقال: {اللاَّعِنُونَ}، ولم يقل اللاعِنَات؛ لأنَّه تعالَى وصَفَها بصفةِ مَنْ يعقلُ، فجمعَها جَمْعَ مَنْ يعقلُ؛ كقوله تعالى: {والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] و{يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} [فصلت: 21].
و{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] وقيل: كُلُّ شيْءٍ إِلاَّ الإنْسَ والجِنَّ قاله ابنُ عَبَّاس. اهـ.
سؤال: فإن قيل: كَيْفَ يصحُّ اللعْنُ من البهائِمِ، والجَمَادَاتِ؟
فالجواب مِنْ وجْهين:
الأول: على سبيلِ المُبَالغَةَ، وهي أنَّها لو كانت عاقلةً، لكانَتْ تَلْعَنُهُمْ. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

.سؤال: لم أسقط فاء السبب في كلمة {أولئك}؟

ولما كان المضارع دالًا على التجديد المستمر وكان الإصرار المتصل بالموت دالًا على سوء الجبلة أسقط فاء السبب إشارة إلى استحقاقهم للخزي في نفس الأمر من غير نظر إلى سبب فقال: {أولئك} أي البعداء البغضاء {يلعنهم الله} أي يطردهم الملك الأعظم طرد خزي وذل {ويلعنهم اللاعنون} أي كل من يصح منه لعن؛ أي هم متهيؤن لذلك ثم يقع لهم ذلك بالفعل عند كشف الغطاء. اهـ.

.سؤال: لم وسط اسم الإشارة {أولئك} بين اسم {إنَّ} وخبرها؟ ولم عبر باسم الإشارة البعيد؟

الجواب: وقوله: {أولئك} إشارة إلى {الذين يكتمون} وسط اسم الإشارة بين اسم {إنَّ} وخبرها للتنبيه على أن الحكم الوارد بعد ذلك قد صاروا أحرياء به لأجل تلك الصفات التي ذكرت قبله بحيث إن تلك الصفات جعلتهم كالمشاهدين للسامع فأشير إليهم وهو في الحقيقة إشارة إلى أوصافهم، فمن أجل ذلك أفادت الإشارة التنبيه على أن تلك الأوصاف هي سبب الحكم وهو إيماء للعلة على حد: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5].
واختير اسم إشارة البعيد ليكون أبعث للسامع على التأمل منهم والالتفات إليهم أو لأن اسم الإشارة بهذه الصيغة هو الأكثر استعمالًا في كلامهم. اهـ.

.سؤال: ما سر الالتفات إلى الغيبة؟

الجواب: والالتفات إلى الغيبة بإظهار اسم الذات لتربية المهابة والإشعار بأن مبدأ صدور اللعن صفة الجلال المغايرة لما هو مبدأ الإنزال والتبيين من صفة الجمال. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.فصل فيما يتعلق بهذه الآية من الحكم:

قال العلماء: لا يجوز لعن كافر معين لأن حاله عند الوفاة لا يعلم فلعله يموت على الإسلام وقد شرط الله في هذه الآية إطلاق اللعنة على من مات على الكفر ويجوز لعن الكفار يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها» وذهب بعضهم إلى جواز لعن إنسانًا معين من الكفار، بدليل جواز قتاله وأما العصاة من المؤمنين فلا يجوز لعنة أحد منهم على التعين وأما على الإطلاق فيجوز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله السارق يسرق البيضة والحبل فتقطع يده» ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة وآكل الربا ومؤكله ولعن من غير منار الأرض، ومن انتسب لغير أبيه وكل هذه في الصحيح. اهـ.
وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيُّ رَضِيَ اللَّه عنه: الآيَةُ الكريمة تدلُّ على أنَّ للمسلِمِين لعن مَنْ مات كَافِرًا، وَأَنَّ زوالَ التكْليف عَنْه بالمَوْتِ لا يُسْقِطُ عَنْه اللَّعْنة؟ لأنَّ قوله تعالى: {وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} أمرٌ لَنَا بلَعْنِهِ بَعْدَ مَوته؛ وَهَذَا يدلُّ على أنَّ الكافر، لَوْ جُنَّ، لم يَكُنْ زَوَالُ التَّكْلِيفِ عَنْه مُسْقِطًا اللَّعْنةَ والبَرَاءة منْهُ، وكذلك السَّبيلُ فيما يُوجِبُ المَدْحَ والموالاَةَ مِنَ الإِيمَان والصَّلاح، فَمَوْتُ مَنْ كان كذلك أو جنونُهُ لا يغيِّر حكْمَهُ عَمَّا كان علَيْه قَبْلَ حُدُوث الحَالِ به. اهـ.

.فصل في هل يجوز لعن الكافر المعين:

قال ابْنُ الْعَرَبيِّ: قَالَ لِي كثيرُ مِنْ أشْيَاخِي: إنَّ الكافرَ المُعَيَّن لا يجوزُ لَعْنُهُ؛ لأنَّ حاله عنْد المُوَافَاةِ لا تُعْلَمُ، وقَدْ شَرَط اللَّه تعالى في هذه الآية الكريمة في إطْلاَقِ اللَّعْنَةِ: المُوافَاةَ عَلَى الكُفْر.
وأمَّا ما رُويَ عَنِ النبيِّ- صلى الله عليه وسلم وعَلَى آلِهِ وسلَّم، وشَرَّفَ وكَرَّمَ، ومَجَّدَ، وَبَجَّلَ وعَظَّم- أَنَّه لَعَنَ أَقْوَامًا بأعْيَانِهِمْ مِن الكُفَّار، فَإِنما كان ذَلِكَ؛ لِعِلْمِهِ بمآلِهِمْ.
قال ابْنُ العَرَبِيِّ: والصحيحُ عنْدِي: جوازُ لَعْنِهِ؛ لظاهر حَالِهِ، ولجواز قَتْله وقتَالِهِ.
وقد رُويَ عَنِ النبيِّ- صلى الله عليه وسلم وعَلَى آلِهِ وسلَّم، وشَرَّفَ وكَرَّمَ، ومَجَّدَ، وَبَجَّلَ وعَظَّم- أنه قال: «اللَّهُمَّ، إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ هَجَانِي، وَقَدْ عَلِمَ أَنِّي لَسْتُ بشَاعِرٍ، فَألْعَنْهُ، وأَهْجُهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي» فَلَعَنَهُ، وإن كان الإيمانُ والدِّينُ والإسْلاَمُ مَآلَهُ، وانتصف بقوله: عَدَدَ مَا هَجانِي ولم يَزِدْ؛ لتعليم العَدْلِ والإنصافِ، وأضَافَ الهَجْوَ إلى اللَّه تعالَى في باب الجَزَاءِ، دون الابتداءِ بالوَصْف بذلك؛ كما يضاف إليه المكْرُ والاسْتهْزَاءُ والخَديعةُ، تعالَى عَنْ ذلك.
قال القُرْطُبِيُّ: أما لَعْنُ الكُفَّار جُمْلَةُ مِنْ غَيْر تَعْيين، فلا خِلاَفَ، فيه؛ لِمَا روَى مَالِكٌ، عن داوُدَ بْنِ الحُصيْنِ، أنَّه سَمِعَ الأَعْرَجَ يقُولُ: مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إلاَّ وَهُمْ يَلْعَنُونَ الكَفَرَةَ فِي رَمَضانَ، وَسَواءٌ كَانَتْ لَهْم ذِمَّةٌ أَوْ لَمْ تَكْنْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ، وَلَكِنَّهُ مُبَاحٌ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ} اسْتَدَلَّ بِهَا عُلَمَاؤُنَا عَلَى وُجُوبِ تَبْلِيغِ الْحَقِّ وَبَيَانِ الْعِلْمِ عَلَى الْجُمْلَةِ.
وَلِلْآيَةِ تَحْقِيقٌ هُوَ أَنَّ الْعَالِمَ إذَا قَصَدَ الْكِتْمَانَ عَصَى، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّبْلِيغُ إذَا عَرَفَ أَنَّ مَعَهُ غَيْرَهُ.
قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ: قَالَ عُرْوَةُ: الْآيَةَ: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَاَللَّهِ لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ شَيْئًا، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يُحَدِّثَانِ بِكُلِّ مَا سَمِعَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ.
وَكَانَ الزُّبَيْرُ أَقَلَّهُمْ حَدِيثًا مَخَافَةَ أَنْ يُوَاقِعَ الْكَذِبَ؛ وَلَكِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْعِلْمَ عَمَّ جَمِيعَهُمْ فَسَيُبَلِّغُ وَاحِدٌ إنْ تَرَكَ آخَرُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالتَّبْلِيغُ فَضِيلَةٌ أَوْ فَرْضٌ، فَإِنْ كَانَ فَرْضًا فَكَيْفَ قَصَّرَ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْجِلَّةُ كَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَالزُّبَيْرِ، وَأَمْثَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فَضِيلَةً فَلِمَ قَعَدُوا عَنْهَا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَنْ سُئِلَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّبْلِيغُ لِهَذِهِ الْآيَةِ؛ وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُسْأَلْ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّبْلِيغُ إلَّا فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ.
وَقَدْ قَالَ سَحْنُون: إنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرٍو هَذَا إنَّمَا جَاءَ فِي الشَّهَادَةِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يُبَلِّغُ اُكْتُفِيَ بِهِ، وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ، وَسَكَتَ الْخُلَفَاءُ عَنْ الْإِشَارَةِ بِالتَّبْلِيغِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَنْصِبِ مَنْ يَرُدُّ مَا يَسْمَعُ أَوْ يُمْضِيهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِعُمُومِ التَّبْلِيغِ فِيهِ، حَتَّى إنَّ عُمَرَ كَرِهَ كَثْرَةَ التَّبْلِيغِ، وَسَجَنَ مَنْ كَانَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضِيلَةِ التَّبْلِيغِ أَنَّهُ قَالَ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا». وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.فائدة في علماء السوء:

ما قيل في أحبار اليهود يقال مثله في علماء السوء من هذه الأمة، الذين ملكتهم جيفة الدنيا، وأسرهم الهوى، الذين يقبضون الرّشَا على الأحكام، فيكتمون المشهور الواضح، ويحكمون بشهوة أنفسهم، فأولئك يلعنهم اللاعنون، وفي ذلك يقول ابن المبارك رحمه الله:
وهل أَفْسَدَ الدينَ إلا الملوكُ ** وأحْبَارُ سُوءٍ ورُهْبَانُهَا

وباعُوا النفوسَ ولم يَرْبَحُوا ** ولم تغْلُ في البَيْع أثْمَانُهَا

لقدْ رتعَ القومُ في جِيفَةٍ ** يَبِينُ لذِي العَقْلِ إنْتَانُهَا

وكان يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه يقول لعلماء وقته: يا معْشرَ العلماء، ديارُكم هَامَانيَّة، وملابِسُكُم قَارُونية، ومَرَاكِبُكُم فرعونية وولائمُكُمْ جالوتية، فأين السنّةُ المحمدية؟. إلا مَن تاب وأصلح ما أفسد، وبيَّن ما كتم، فأولئك يتوب الله عليهم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (160):

قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما بين جزاء الكاتمين استثنى منهم التائبين مبينًا لشرائط التوبة الثلاثة فقال: {إلا الذين تابوا} بالندم على ارتكاب الذنب {وأصلحوا} بالعزم على عدم العود {وبينوا} ما كانوا كتموه فظهرت توبتهم بالإقلاع.
ولما كان الإنسان يحب ما كان بسبب منه رغبهم في المتاب بعد توبتهم سببًا لتوبته ورحمته وإن كان ذلك كله مَنًّا منه في نفس الأمر فقال معبرًا بالفاء: {فأولئك} العالو الرتبة {أتوب عليهم} أي أقبل توبتهم فأحفظهم بما يشعر به مثال الفعل الدائم فيما وفقتهم لابتدائه، وفي الربط بالفاء إشارة إلى إسراع استنقاذ توبة الله عليهم من نار الخوف والندم رحمة منه لهم برفعهم إلى موطن الإنس، لأن نار الخوف في الدنيا للمقترف رحمة من عذاب النار تفديه من نار السطوة في الآخرة، من لم يحترق بنار المجاهدة أحرقته نار الخوف، فمن لم يحترق بنار الخوف أحرقته نار السطوة- أفاده الحرالي. ولما كان من شأن الإنسان معاودة الذنوب لصفة النسيان ختم الآية بما دل على أن التقدير: فإني أحب التوابين فقال: {وأنا التواب} أي مرة بعد مرة لمن كر على الذنب ثم راجع التوبة كرة إثر كرة {الرحيم} لمن فعل ما يرضيني. اهـ.